تفاصيل الموضوع

الوسطية الحقة لا المدعاة

تاريخ الموضوع : 4/4/2012 الموافق الأربعاء 13 جماد الاول 1433 هـ | عدد الزيارات : 2977

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن التوسط والاعتدال مطلب شرعي، ومبدأ قرآني، وضرورة حياتية، تَمثَّلها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله، وحياته ومعاشه، ولذا كانت الوسطية سمة بارزة في عقيدة الإسلام وتشريعاته، وهو ما امتن الله به على هذه الأمة أن جعلها أمة وسطاً، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }  [البقرة: ١٤٣]

وذلك يستلزم الخيرية فيها، وهو ما نص الباري جل وعلا عليه، كما في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: ١١٠].
وليست الوسطية في العقائد فقط، بل في سائر أحكام الشريعة أيضاً، ففي باب العبادات مثلاً نجد الله تعالى يؤكد على الوسطية والاعتدال، فيقول جل وعلا: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}  [الإسراء: ١١٠].

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة لا تنام الليل، تصلي، فقال: (مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا) قالت: وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه.

وفي باب النفقة يقول جل شأنه في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: ٦٧].

يقول السعدي رحمه لله عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا }  "أي: عدلا خيارا، وما عدا الوسط، فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة، وسطا في كل أمور الدين، وسطاً في الأنبياء، بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفاهم، كاليهود، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك، ووسطاً في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى".
ومن لزم الوسطية والاعتدال وفق ورشد، واستقام أمره، وطاب عيشه، وصلح حاله.

والوسطية سلوك دائم، يجب امتثاله عقيدة، وعبادة، وعلماً وعملاً، وأخلاقاً، ودعوة.
ومن جَانَبَها، وعدل عنها، سواء بإفراط أو تفريط، حاد عن الطريق، وانحرف عن المنهج القويم، والصراط المستقيم، وربما أوقع نفسه وغيره في الفساد والإفساد، إما بهدم الدين تهويناً لواجباته، وتسويغاً لمحرماته، بتبريرات باطلة، وتأويلات منكرة، وإما بتبديع المسلمين وتكفيرهم، واستحلال دمائهم وأموالهم بغير حق.

فنفَّروا بأعمالهم وسلوكهم عن الإسلام أقواما؟ وفتحوا لتسلط الأعداء على المسلمين أبوابا.
فيالله ما أعظم جناية هؤلاء على الإسلام والمسلمين، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليهم حين قال: (سيكون في أُمتي اختلاف وفرقة، ثم قوم يُحسنون القيل، ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ...) أخرجه أبو داوود وصححه الألباني

وقال أيضاً في وصف الخوارج: (يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ) متفق عليه
ومن هذا القول الحسن ما يدَّعونه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم يرفعون شعاره ويُسيئون استخدامه، وما اعتراض أولهم على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الباب، وما خروجهم على علي  بن أبي طالب رضي الله عنه إلا من هذا الباب أيضاً.

قال الآجري رحمه الله في الشريعة (1/325): «ويظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس ذلك بنافع لهم ؛ لأنهم قوم يتأوَّلُون القرآن على ما يهوون، ويموهون على المسلمين».

وقال أيضاً رحمه الله (1/345): "فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمامٍ، عدلاً كان الإمام أو جائراً، فخرج وجمع جماعةً، وسلَّ سيفه، واستحلَّ قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغترَّ بقراءته للقرآن، ولا بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صومه، ولا بحسن ألفاظه في العلم، إذا كان مذهبه مذهب الخوارج"

وقال ابن حجر في الفتح (12/301) بعد ذكره لحديث أبي سعيد رضي الله عنه في الخوارج: " وفيه التحذير من الغلو في الديانة، والتنطع في العبادة، بالحمل على النفس فيما لم يأذن فيه الشرع، وقد وصف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة، وإنما ندب إلى الشدة على الكفار، وإلى الرأفة بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج".

وإذا كان هؤلاء حملوا الدين على الشدة والغلو، فكان بُعدهم عن الوسطية من هذا الجانب، فثمة فئة أخرى لا تقل عن هذه الفئة خطورة، أسقطوا الوسطية على مفهوم التيسير والتسهيل في نظرهم، حيث حملوا على عواتقهم ما يُسمونه -زوراً وبهتاناً- تيسيراً وتسهيلاً، فتسلطوا على نصوص الشريعة بتأويلات مستبشعة، وفتاوى مضللة -عبر وسائل إعلامية متعددة- وكأنهم يفعلون ذلك تحقيقاً لرغبة المستمعين أو المشاهدين.

وإن من أعظم الزور والبهتان تسمية هذا التساهل والتنازل وسطية.
فأُبيح الربا باسم الوسطية! وحام بعض الناس حول الزنا باسم الوسطية!، ودُعي إلى التبرج والسفور والاختلاط باسم الوسطية! وتجرأ الفساق على أحكام الشريعة باسم الوسطية! ومُدت الجسور مع أعداء الله، من الرافضة ونحوهم، -من قِبل بعض المنتسبين للعلم والدعوة- باسم الوسطية!
إن الوسطية لا تعني تمييع الدين، والتساهل فيه، والتخفف من واجباته، والتنازل عن ثوابته، والمداهنة لأعدائه، بل الدين نوع تكليف، ولذا سُمي المسلم البالغ العاقل مكلفاً، وسُميت أحكام الدين بـ(الأحكام التكليفية)، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: ٥].  فهو ثقيل لتضمنه الواجب والمحرم، لاشتماله على التكليف الذي يجب أن يلتزمه كل من دان بهذا الإسلام.

نعم الإسلام دين اليسر، والسماحة والسهولة، فالله تعالى يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}  [البقرة: ١٨٥].

والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يسّروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) متفق عليه.
وتظهر هذه السماحة، وذلك اليسر بجلاء عند مقارنة هذا الدين بتشريعاته المختلفة بالأديان الأخرى.

ولكن ليس الأمر بالذي يذهب إليه هؤلاء، فيبيحون المحرم، ويتركون الواجب، ويلوون أعناق النصوص، اتباعاً للهوى، وتخففاً من التكاليف، بحجة التيسير والتخفيف.
إن التيسير والسماحة سمة الشريعة، فلا يجوز الخروج عنها، أو السطو عليها، بما نظنه تيسيرا بغير برهان أو دليل، فإن هذا إثم كبير، وجرم عظيم، فضلاً عن كونه يستلزم اتهام الشريعة بالآصار والأغلال.

وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما" متفق عليه
فالشرط في التيسير: "ما لم يكن إثماً" فما بال هؤلاء أو بعضهم يستشهدون بأول هذا الأثر، دون آخره؟!

وتأمل قول الله تعالى في آخر سورة الحج: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}  [الحج: ٧٨].

فهو يذكر الجهاد الذي فيه التعرض للقتل، وإزهاق الروح، في سورة الحج، الذي كثيراً ما تقترن به المشقة، -ولهذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم جهاداً لا قتال فيه- ثم يقول الله بعد ذلك: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}

فالتيسير إذاً، ما كان منضبطاً بضوابط الشرع، لا بأهواء الخلق، والله تعالى أعلم.

د. سليمان بن محمد الدبيخي

Bookmark and Share

إضافة التعليق