تفاصيل الموضوع

حكم الاحتفال بالموالد

تاريخ الموضوع : 29/12/2014 الموافق 1436/3/7هـ | عدد الزيارات : 1322

سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله   

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.. أما بعد:
فانه قد طرأ على صفاء هذا الدين، ووضوح أحكامه في عصور انحطاط المسلمين كثير من البدع والمحدثات التي زادت انحطاطهم انحطاطا، وشغلتهم عن العودة إلى العقيدة الصافية والتمسك بها، والرجوع إلى الحق بتتبع المظاهر الفارغة والتقاليد العمياء التي سنّها من ضل وأضل؛ فحادت بهم عن طريق الحق وسلكت بهم مسالك الضلال، ولبست على المسلمين في عقيدتهم، وأخمدت فيهم جذوة الإيمان وجمال الإتباع، وامتصت طاقاتهم المتعددة المتقدة قوة وحماسا لمظاهر فارغة وأعمال خاوية؛ فانتشرت بينهم أعمال الاحتفالات المبدعة، واتجه رجاؤهم وتعلقهم بالله إلى التعلق بالقبور والأضرحة والتماس الشفاعة منها وطلب الحاجات إليها؛ فعاد أكثر المسلمين بهذه الضلالات إلى مظاهر الوثنية وتقديس الأشخاص؛ فاستخفهم أعداهم وازداد تدهورهم وتحولت قوتهم إلى ضعف.

وبحلول التاريخ الموافق لمولد رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - تحل مناسبة ابتدع كثير من الناس فيها إقامة الاحتفالات بالمولد، وزعموا أن ذلك مما يحقق المراد من حب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وموالاته، ويغفلون الواجب في أن محبة الرسول إنما تكون باتباعه وطاعته.. أما هذه الاحتفالات الشائعة فهي غير جائزة، بل من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم - لم يفعله، ولا خلفاؤهم الراشدون ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله على الجميع، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة وأكمل حبا لرسول الله - صلى الله علية وسلم - ومتابعة لشرعه ممن بعدهم، وأول من ابتدعها فيما بلغناهم الفاطميون في القرن الرابع هجري، وهم معروفون بالعقيدة الفاسدة وإظهار التشيع لأهل البيت وللغلو فيهم. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، أي مردود عليه، وقال في حديث آخر: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فان كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلاله".

ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها، وقد قال الله سبحانه في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً..}، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِين}، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

وإحداث مثل هذه الموالد يفهم عنه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به حتى جاء هؤلاء المتأخرون؛ فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به، زاعمين أن ذلك مما يقرب إلى الله.

وهذا بلا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه قد أكمل لعباد الدين وأتم عليهم النعمة، والرسول- صلى الله عليه وسلم- قد بلغ البلاغ المبين ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم.."، رواه مسلم في صحيحه، ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم وأكملهم بلاغا ونصحا؛ فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم- للأمة أو فعله في حياته أو فعله أصحابه في رضي الله عنهم، فلما لم يقع شئ من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شئ، بل هو من المحدثات في الدين التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين.

وقد جاء في معناهما أحاديث أخر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: "أما بعد.. فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتهما، وكل بدعة ضلالة.." رواه مسلم في صحيحه، والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة..
وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها بالأدلة المذكورة وغيرها، وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شئ من المنكرات كالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاختلاط النساء بالرجال، واستعمال آلات الملاهي.. وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر. وظنوا أنها من البدع الحسنة.

والقاعدة الشرعية ردّ ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ}، وقد رددنا هذه المسألة - وهى الاحتفال بالموالد - إلى كتاب الله سبحانه فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا وأمرنا باتباع الرسول فيه، وقد رددنا ذلك أيضا إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة، ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم.

وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق، وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام، بل هو من البدع والمحدثات التي أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم بتركها والحذر منها، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار؛ فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه..} الآية.

ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد - مع كونها بدعة - لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى: كاختلاط النساء بالرجال، واستعمال الأغاني والمعازف، وشرب المسكرات والمخدرات، وغير ذلك من الشرور، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك، وهو الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأولياء، ودعائه والاستعانة به وطلبه المدد، واعتقاد أنه يعلم الغيب ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يسمونهم بالأولياء، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"، وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عمر رضى الله عنه.

ومن العجائب والغرائب أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة، ويدافع عنها ويتخلف عما أوجب الله عليه من حضور الجمع والجماعات، لا يرفع بذلك رأسا ولا يرى أنه أتى منكرا عظيما، ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة وكثرة ما ران على القلوب من صنوف المعاصي والذنوب.. نسأل الله العافية لنا ولسائر المسلمين..

من ذلك أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر الموالد؛ ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل؛ فان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة كما قال تعالى في سورة البقرة {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ..} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول منه ينشق عنه القبر يوم القيامة وأنا أول مشفع.."، عليه من ربه أفضله الصلاة والسلام؛ فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف - وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث - كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من أموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم.

فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور، والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بهذا من سلطان.. والله المستعان وعلمه التكلان.. ولا حول ولا قوة إلا به…
أما الصلاة والسلام على رسول الله فهي من أفضل القربات، ومن الأعمال الصالحات كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا"، وهى مشروعة في جميع الأوقات ومتأكدة في آخر كل صلاة، بل واجبة عند جمع من أهل العلم في التشهد الأخير، وسنة مؤكدة في مواضع كثيرة منها ما بعد الآذان، وعند ذكره عليه الصلاة والسلام، وفي يوم الجمعة وليلتها، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة..

والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يمن على الجميع بلزوم السنة والحذر من البدع إنه جواد كريم.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

 

Bookmark and Share

إضافة التعليق