تفاصيل الموضوع

﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ سورة محمّد

تاريخ الموضوع : 11/5/2014 الموافق الأحد 12 رجب 1435 هـ | عدد الزيارات : 1654
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (14)﴾
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الهدى والسداد والتوفيق والرشاد، وأسأله تبارك وتعالى أن يرينا الحق حقا ويمنّ علينا باتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويمن علينا باجتنابه وتركه.
كما أسأله جل وعلا أن يحيينا حياة طيبة، وأن يميتنا ميتة طيبة، وأن يحشرنا مع أولياء الله جل وعلا.
هذه الآيات التي سمعتموها من صدر سورة محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أقف فيها مع آيتين أو مع مسألتين:
أما الأولى: فهي قوله جل وعلا ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾.
والثانية: هي قوله جل وعلا ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾.
المسألة الأولى
أما الآية الأولى ففيها بيان أن المقتول في سبيل الله عز وجل سيهديه الله وسيصلح باله، وفي هذا دلالة ظاهرة أن الهداية تكون بعد الممات أو تكون بعد مفارقة الدنيا، فبحق الذين قتلوا في سبيل الله فهم سيُهدون، بعد تركهم لهذه الدنيا سيهديهم الله جل وعلا، وكذلك الذين ماتوا إذا كانوا على الإيمان سيهدون وسيصلح الله بالهم وسيدخلهم الجنة.
في هذا قال العلماء: إن الهداية التي جاءت في القرآن أربعة أنواع:
النوع الأول الهداية الغريزية: وهي المذكورة في قوله تعالى ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[طه:50]، فهذه هداية جعلها الله جل وعلا رحمة منه لكل مخلوق، كل مخلوق هداه ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾، هداه لما يصلحه، هداه لما قدر الله جل وعلا له في حياته.
سماها العلماء الهداية الغريزية، هذه هداية طبعية؛ طبع عليها الخلق.
النوع الثاني من الهداية هداية الدلالة والبيان والإرشاد: فإن الله جل وعلا هدى الخلق، وأقام لهم البينات الواضحة التي لا يلتبس معها النظر ولا السلوك لذي العقل ولذي اللب، فأرشد جل وعلا وبين وهدى وعلم ودلّ، وذلك بإنزال كتبه وبإرسال الرسل.
إنزال الكتب لإقامة الحجة على العباد ولهدايته ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾[المائدة16].
كذلك الرسل يهدون إلى ما أمرهم الله جل وعلا به فيبينوه للناس.
فإذن هداية الدلالة والبيان لم تترك للاجتهاد، وإنما قد بينت وأوضحت لأن الله جل وعلا هو الهادي وإن الله لهادي الذين آمنوا، قال جل وعلا في حق نبيه ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[الشورى:52]، يعين هداية البيان والدلالة والإرشاد.
إذن لا خير ولا شيء فيه الصلاح للعباد إلا وقد بُيّن ودل عليه العباد وأرشدوا إليه، في الكتب بما أنزل على الرسل وخاصة القرآن العظيم الذي أنزله الله جل وعلا على قلب خاتم المرسلين، وبما أوحى الله جل وعلا إلى نبيه من السنة.
وهذا يعني أن من ظنّ أو زعم أن هناك طريقا يوصل إلى الله جل وعلا ويهدي إلى الله دلالة وبيان لم يرد في الكتاب ولا في السنة، في ضمن هذا المقال أن البيان والهدى والدلالة والإرشاد التي جاءت في القرآن والسنة أنها لم تكن على وجه الكمال؛ لأن القائل بأنه يمكن أن نهتدي إلى سبيل لم ينص عليه في القرآن والسنة، معنى ذلك أن هناك سبيل هداية لم يرشد إليه العباد، وهذا ولاشك باطل ومناقض لما في التنزيل والسنة، إذ تنزيل القرآن كان لهداية الخلق، والله جل وعلا ما فرّط في الكتاب من شيء، على أحد التفسيرين بأنه القرآن، وبيّن القرآن وأنزل الذكر لتبينه وهذا ليكون حجة كافية، وأعظم ما يؤخذ من القرآن العظيم ومن الرسالة، أعظم ما يؤخذ هو سبيل الهداية وسبيل النجاة.
فإذن يتقرر بهذا أن سبيل النجاة وسبيل الهداية لابد أن يكون واضحا في القرآن وفي السنة أبلغ الوضوح وأعظم الوضوح وأظهره.
النوع الثالث من الهداية هداية التوفيق والإلهام: وهذا النوع من الهداية مبتدؤه من العبد ومنتهاه من الله جل وعلا؛ يعني أن الله جل وعلا يمن بتوفيقه وبإلهامه وتسديده للعبد بسبب من العبد، قال الله جل وعلا ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ﴾[الأنفال:23]، وهذا النوع من الهداية يأخذ في تحصيله وهو توفيق الله جل وعلا وإلهامه وتسدديه يأخذ بسببه العبد إذا سلك السبيل والطريق.
أما إذا سلك طريقا آخر بتفريط منه في العلم أو بتركه سبيل الحق بعد معرفته فإنه يوكل إلى نفسه ويحرم التوفيق والسداد والإلهام.
لهذا كان ما عند الله جل وعلا إنما يطلب منه يعني امتثال ما أمر، ولا شك أن العبد إذا سلك سبيل الهداية راغبا، فإن التوفيق على الله جل وعلا قد ووعده به العبد، وعد الله جل وعلا حق لا يخلف الله الميعاد، ولهذا كان من أسرار الدعاء العظيم الذي في الفاتحة وهو قوله تعالى ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾[الفاتحة:6-7]، هذا الصراط فُسّر بأنه الإسلام القرآن السنة ونحو ذلك، وقيل في السؤال في الاستشكال إن المصلي قد حصلت له الهداية، الهداية إلى الصراط؛ لأنه ما دام مسلما مؤمنا مصليا قد هُدي إلى القرآن وإلى السنة وإلى الإسلام، فما فائدة هذا السؤال؟ وهو قول المصلي ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ مع أنه مهتد إذ كان مؤمنا مسلما؟
وأجيب بأجوبة أحسنا أن الهداية إلى الصراط المستقيم هداية إلى أفراد ذلك الصراط.
والصراط الذي هو الإسلام الإيمان القرآن السنة قد يأخذ العباد منه شيئا ويتركون شيئا آخرا، فأفراده كثيرة، أفراد القرآن من حيث الالتزام بها أحكامه أخباره كثيرة، كذلك أمور الإسلام الإيمان، فسؤال العبد ربه جل وعلا أن يهديه الصراط المستقيم؛ يعني أن يوفقه ويسدده لسلوك جميع أفراد الصراط المستقيم.
لهذا وصف ذلك الصراط بأنه صراط الذين أنعم الله عليهم فقال ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ والذين أنعم الله عليهم هم الذين في سورة النساء يقوله جل وعلا ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا﴾[النساء:69-70]، فدل على أن الهداية للصراط أخص -هذا الصراط المذكور في الفاتحة- أخص من الهداية إلى مطلق الإسلام والإيمان أو مطلق الالتزام بالقرآن والسنة.
إذن فنحن في أمس الحاجة فيما يقول شيخ الإسلام وابن القيم وجماعة العلماء إلى هذا الدعاء ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ لأنه ما من زمن إلا والصوارف فيه على الالتزام بجميع أفراد الصراط المستقيم أكثر من الزمن الذي قبله، وهذا مأخوذ من قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» ذلك الشر يكون بكثرة، يكون بأشياء منها كثيرة الصوارف عن لزوم الصراط المستقيم، لهذا كانت الحاجة عظيمة إلى أن تسأل الله جل وعلا الهداية إلى الصراط المستقيم.
الهداية يعني الالتزام وتمامه حصول التوفيق من الله جل وعلا هو الذي يعنى به هذا النوع من الهداية وهو الهداية هداية التوفيق السداد والإلهام.
إن التوفيق من الله جل وعلا، التوفيق من الله جل وعلا، ومعنى التوفيق عند أهل السنة والجماعة أن لا يكل الله العبد لنفسه، أن يمده بعون خاص به يكون قوة له على الطاعة وصرفا لقلبه عما لا يرضاه الله جل وعلا.
وغير أهل السنة يفسرون التوفيق بأنه خلق القدرة على الفعلـ ويفسرون الخذلان بأنه حرمانه من القدرة على الفعل، وهذا قول الأشاعرة وما شابههم، وهو باطل وهذا ليس محل بيان بطلان.
المقصود أن التوفيق إعانة خاصة من الله جل وعلا للعبد، هذه الإعانة هي هداية من الله جل وعلا، لو لم يعن الله جل علا عبده عليها لم حصل على الهداية لم؟ لأن إبليس وجنده يرصدون العبد ويرصدون توجهاته ويرصدون سلوكه، وهم أحرص ما يكونون على صرفه.
فإذا كان معه عون من الله جل وعلا وتوفيق وتسديد كان قويا عليه، فإذا حُرم ذلك العون ذلك التسديد كانوا أقوى عليه من نفسه، ولذلك يكون أحوج ما يكون العبد إلى أن يهديه الله جل وعلا هداية التوفيق؛ لكن هذه مع أنها منة من الله جل وعلا وتفضل وتكرم؛ لكنها بسبب من العبد وهو أن يكون سالكا سبل الهداية.
النوع الرابع من أنواع الهداية هو الذي جاء في هذه الآية، وهو أعظم أنواع الهداية وآخرها ونتيجتها ومحصَّلها، وهو هداية المؤمنين إلى طريق الجنة، هداية المؤمنين إلى سلوك سبيل الصراط في الآخرة، كما أنهم سلكوا السبيل والصراط في الدنيا فإنهم يُهدون إلى السبيل وإلى الصراط في الآخرة؛ لأنه بيننا وبين الصراط يعني يوم القيامة ظلمة، دون الجسر ظلمة، ويُهدى المؤمنون -يهديهم الله جل وعلا- إلى الصراط، كل بحسب عمله، وهذه خاتمة الهدايات بالنسبة لأهل الإيمان، يُهدون إلى سلوك الصراط وإلى نوع مشيهم وثباتهم وقوتهم على الصراط، وتعلمون أن من وصفه أنه أدق من الشعر وأحد من السيف وإنه مزلة، وهذا يشعره في أن السير عليه عسير إن لم يكن ثم مدد وتوفيق من الله جل وعلا، وهذا من أفراد هذه الهداية.
كذلك يهدى إلى طريق الجنة ويهدى إلى منزله، قال جل وعلا ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ﴾ لأنهم قد قتلوا فإذن الهداية هنا ليست هداية الدنيا فإنما هي هداية الآخرة.
ويقابل ذلك في حق أهل النار قال جل وعلا ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ(23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾[الصافات:23-24]، في سورة الصافات، يهدى أهل الجنة إلى الجنة ويهدى أهل النار إلى النار، وهذه ثمرة الهداية في الدنيا ثمرة من قبلها وثمرة من لم يقبلها.
المسألة الثانية
الآية الثانية هي قوله جل وعلا ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾.
ذكرنا أن الهداية منها هداية بيان وإرشاد، وهذه لم يتركنا الله جل وعلا للاجتهاد فيها، فقد بينها لنا بيانا كافيا شافيا كاملا لا نقص فيه بوجه من الوجوه، إذْ من مقتضى الرحمة من إنزال الكتاب وإرسال الرسول أن يكون الهدى كاملا، قال جل وعلا في وصف القرآن ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء﴾[فصلت:44]، وهدى معه لا يكون الضلال ومعه لا يكون الالتباس، بالقرآن وبالسنة البينة كاملة والطريق والبيان ظاهر أتم الظهور، قال جل وعلا في وصف المؤمنين ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾ أشد الناس حظا وأكثرهم نصيبا من هذه الآية هم الذين كانوا اشد استمساكا بالبينات التي جاءت في الكتاب والسنة، وأقلهم حظا من نقص من الاستمساك بما جاء من البينات في الكتاب والسنة، حتى يكون الناس على فريقين متباينين أشد التباين.
من كان على البينة يعني على الالتزام بالقرآن والسنة والأخذ بما جاء به من البينات.
والصنف الثاني من ترك هو الذين تركوا البينات التامة وكانوا في أعلى سوء العمل أعلى صور سوء العمل وذلك هو الكفر وأعلى صور ابتاع الهوى وذلك هو اتباع الشيطان.
وبين الفريقين من يقرب من هؤلاء ومن يقرب من هؤلاء.
فهذه الآية تصدق على كل من كان عنده التزام بالبينات، وعنده تنوع سوء عمل ونوع هوى، فلا يدخل الذي عنده سوء العمل وعنده الهوى مع من كان على بينة من ربه يحتج بما جاءه عن ربه جل وعلا وبما جاءه به نبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
فإذن في هذه الآية بيان أن المرء إما يكون على بينة من ربه، وإما أن يكون على غير بينة من ربه في بعض أمره أو في كل أمره.
وذلك من قوله ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ والبينة تصدق على البينة الواحدة وعلى جنس البينات، وقال جل وعلا في وصف ما يقابل أولئك ﴿كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾ وسوء العمل يصدق على الواحد ويصدق على جنس العمل.
فإذن دلت الآية على أن كل امرئ مخاطَب بأن يكون على بينة من ربه؛ لأنّ في هذه الآية الإنكار، الاستفهام ههنا إنكاري، ينكر على الذين جعلوا من ساء عملهم واتبعوا أهواءهم مساوون أو يفضلون عن أولئك الذين هم على بينة من ربهم.
فهذا الاستفهام فيه الإنكار وفي الإنكار توبيخ أيضا، قال جل وعلا ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ إذن نستفيد من الآية الحث والحض على أن يكون المرء في أموره كلها على بينة من ربه، وأن يكون مقتفيا البينات والهدى الذي جاء في القرآن والسنة، لا يكون سالكا مع هواه وسالكا ما زين له من العمل؛ بل إنه إذا كان سالكا ما زين له من العمل وترك اتباع البينات والهدى فله نصيب من اتباع الهوى بحسب ذلك.
إذا تقرر هذا مع ما بينا سالفا من أن الهدى -هدى البيان والإرشاد- قد تم في القرآن وبينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته، فمعنى ذلك أنه لا يلتمس منهج السلف في الحقيقة بعدٌ عن البينات التي جاءت في الكتاب والسنة، لم؟ لأن المتبعين للسلف -الحمد لله وتوفيقه ومنته عليهم- ليس لهم مسألة في منهجهم ولا في عقيدتهم ولا في أمورهم إلا ولهم عليها بينة، لا يحتجّون بالرأي ولا بما اجتهدت فيه عقولهم؛ بل احتجاجهم بما جاءنا من البينات والهدى، والله جل وعلا قال في سورة هود ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ قال جل وعلا بعد ما تلوتُ ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[هود:17].
إذا نظرنا إلى الذين خالفوا منهج السلف، هل كان احتجاجهم بعد أن خالفوا احتجاجا بالنصوص أو احتجاجا بالأقيسة والعقول والآراء؟ لاشك أن الجواب أنه إنما احتجوا بالأقيسة والعقول والآراء، وكل من خالف منهج السلف له نصيب من قوله تعالى ﴿زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾.
أنظر إلى جميع المخالفين في باب التوحيد والصفات أو توحيد الإلهية، لهم في رد قول السلف أو في ردّ البينات التي جاءت في القرآن والسنة لهم في ردها منازع ومذاهب كلها خارجة من العقل والقياس والرأي.
وأعظم مصيبة دخلت على المسلمين تحكيم الرأي على الشرع، وهي المصيبة التي يعاني منها المسلمون اليوم.
فالآية دلت بظهور كما سمعتم على أنه ليس بعد اتباع البينات وهي الدلائل والبراهين إلا تزيين سوء العمل وإلا ابتاع الهوى، وهذا ظاهر؛ لأن من خالف النصوص فله نصيب من اتباع الهوى، النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إنما بعث ليطاع.
إذا تأملت في هذا الزمن، وهو زمن خلافات، والخلافات فيه لا تظهر في صورة معارضة النصوص صريحة كما كان فيما مضى من الزمان.
كان فيما مضى الذين يعارضون النصوص يعارضونها بوضوح، يقولون مثلا هذه حديث آحاد لا نقبلها، هذه أحاديث حسنة لا يحتج في العقيدة إلا بالمتواتر أو إلا بالصحيح لا يقبل الحسن، هذه أقوال للسلف وهي تناسب زمنهم لا تصلح في لا نحكم بما قالوه على وفقنا، أقوال السلف أسلم ولكن أقوالنا أعلم وأحكم، ذلك كان فيما مضى من الزمان.
في هذا الزمان قلّ من يتجاسر على هذه الألفاظ؛ ولكن تجوسر على مخالفة السلف وترك البينات بأنواع أخر.
فترى عند المخالفين احترام لأقوال السلف، ترى عند المخالفين اعتداد بما ينقل عن السلف، ترى عندهم نقلا بل نقولا عما يروى عن السلف، فلا تجدهم يعارضون ذلك؛ لكنهم لا يلتزمونها، والتزموا بأشياء يخالف ما كان عليه هدي السلف، خاصة عند الجماعات الإسلامية التي ظهرت في هذا الوقت.
هذه المسألة لا شك أنها تحتاج إلى بصيرة بما كان عليه السلف، وبما عليه أولئك، أعظم مما كان من قبل، لم؟ لأن الأمر يعني في الأزمنة الماضية كان واضحا، هذا يتهجم على السلف، يقول: هؤلاء لا يصلح، أقوالهم لا تصلح، قواعد العلوم السلفية لا تصلح، وهذه منابذة واضحة، فيكون من تمسك ما عليه السلف يكون على بينة ووضوح.
في هذا الزمان التبس الأمر، اختلط الأمر، صار المنتسبون إلى السلف عندهم شيء جديد ألا وهو التفريط في ما نلتزم فيه بهدي السلف أو بمنهج السلف تفريط في المسائل.
يقولون مثلا: عقيدة سلفية، العقيدة تكون سلفية؛ ولكن المواجهة عصرية.
وهذه كلمة من الكلمات التي ظهرت في هذا الزمن، يقولون: نأخذ بسلفية المعتقد؛ ولكن المواجهة نأخذ بها بما يناسب العصر. مواجهة من؟ المواجهة لاشك أنها مواجهة الكفر الشرك ومواجهة من حاد سبيل الله، مواجهة أهل الظلم والطغيان، ونحو ذلك.
مواجهتهم أليست من عظيم المسائل التي يحتاجها المسلم؟ الجواب: بلى؛ هي من عظيم المسائل التي يحتاجها المسلم.
إذن فادعاء أن المواجهة متروكة للاجتهاد ادّعاء بأننا في هذا الأمر لم نكن فيه على قول واضح وبينة ظاهرة؛ يعني أن هذه المسألة ترك فيها للاجتهاد، إذن فالهداية في هذه المسألة بكاملة.
لهذا أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ذكروا في عقائدهم اهتماما بهذه المسألة، ذكروا في عقائدهم كيف تكون المواجهة، أليس عند أهل السنة والجماعة المتحققين بما كان عليه السلف ليس عندهم أن المواجهة اجتهادية؛ بل عندهم أن المواجهة تبع لما جاء في النصوص من أحكام المواجهة.
المواجهة ما معناها؟ إما أن تكون مواجهة جهاد، أو تكون مواجهة إنكار منكر، أو تكون مواجهة خروج على والٍ، أو تكون مواجهة بإنكار منكر، ونحو ذلك، هذه أنواع المواجهات.
هل أنواع المواجهات من هذه مما نحن فيه على بينة من الله؟ أم مما لم تأتنَا؟ ما الجواب؟ الجواب نحن على بينة.
الآيات المكية فيها الكلام على ما يصنع المسلم مع المشركين إذا كان مستضعفا وليس ثم دار هجرة في دار كفر وليس ثم دار هجرة، ولا يستطيع إظهار دينه مثلا، بعض الآيات المكية.
الآيات المدنية فيها بيان قتال المشركين، ومجاهدتهم وما يتصل بالجهاد من مباحث.
وهذه في الواقع، واقع تميز الصف المسلم أو تميز المجتمع المسلم عن مجتمع الكفار.
إذن فهذان الحالان قد بيِّنا أتم بيان في القرآن:
حال يكون فيه المؤمنون بين المشركين؛ لكن تميز لصفهم ولا لمجتمعهم ولا لدولتهم عنهم.
والحال الثانية حال فيه بينونة وتميز للمسلمين ولمجتمع المؤمنين عن مجتمع الكافرين.
ما الحال الثالثة؟ هل ثَم حال ثالثة في المواجهات، نعم، إنها إنكار المنكر، وإنكار المنكر بُيّن في السنة؛ بل وفي القرآن أكمل بيان.
فإذن المتّبعون للسلف؛ بل نقول إن هذه المسائل التي ذكرنا وهي مسائل المواجهات، هل هي أو هل أصحابها والمتنازعون فيها هل يدخلون في هذا الآية؟ الجواب: نعم، قال جل وعلا ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾ كل من خالف في تلك المسائل فلابد أن تجد عنده تحسينا وتزيينا لعمله، وذلك التزيين والتحسين للعمل عقوبة؛ لأنه خالف البينات، إما أن يكون خالفها عن قصد وعمد بأن عرفها ثم خالف، وإما أن تكون مخالفته لها وتركه لها عن قصور وتقصير في البحث عن الحق، قال جل وعلا ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾[الأنبياء:24]، ولا يُعذر المرء بالإعراض عن تطلّب البينات والهدى مع إمكان ذلك، فإذن من خَالف طلب في البينات والهدى والصواب في تلك المسائل، من خالف ولم يطلب أو علم وخالف قصدا فلابد أن يعاقب، ومن أنواع العقوبة أن يزين له سوء عمله والعياذ بالله، وإذا زين له سوء العمل فمعنى ذلك أن يكون تحصيله للحق ضعيفا؛ لأن الواقع في الشيء الذي يرى ذلك الشيء الذي وقع حسنا جميلا، كيف يرى غيره حسنا جميلا فضلا عن أن يراه أحسن أو أجمل، وهذا هو الذي وقع فيه كثيرون اليوم.
إذن فالمسألة مسألة بينات وهدى، وليست مسألة تحسين وحسن وجمال، ليست المسألة آراء، إنّ هذا الأمر طيّب، ينتج نتائج طيبة؛ نراه حسنا لا ليست هذه المسألة عند أهل السنة والجماعة عند السلف، إنما السلف الصالح عندهم الاتباع، إذا اتبعوا فما ينتج عن الاتّباع هو الحسن الجميل وغيره قبيح وليس بحسن.
اليوم تنظرون إلى المخالفين إلى منهج أهل السنة والجماعة كثيرون؛ لكن الذين تشتبه مخالفتهم تشتبه على كثيرين، وربما خدع بهم الأكثيرون أو خدع بهم كثيرون هم الذين يحترمون السلف الصالح ويقولون عقيدتنا عقيدة السلف الصالح؛ ولكنهم يخرجون عن منهج السلف في أشياء لا يستحسنونها.
منهج السلف مثلا في مسائل التغيير التي هي مسائل الساعة، ومسائل الإصلاح منهجهم واضح، وهي التي تسمى مسائل المواجهة، نقول نحن فيها: نحن على بينة من ربنا، لا نتركها، فلا تكن في مرية منه إنه الحق من ربك، ما دام أن هذا لنا عليه بيّنات والدلائل، فنحن في مرية منه، فعلينا أن ننظر إلى الاتباع والوسيلة، وليس علينا أن ننظر إلى ما نحصّله من النتائج أو ما نرومه من الغايات، لا؛ لأن الأمر إنما هو أمر عبادة.
نوح عليه السلام ما آمن معه إلا قليل، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يعلم أنه سيهاجر حتى أمره الله جل وعلا بالهجرة، لم يؤمر بعد، يعلم لأصحابه ولا يعلم ما يحكم الله جل وعلا فيه، حتى أمره ربه جل وعلا بالهجرة فهاجر.
إذن فنصل من هذا إلى أن هذه المسائل المحدثة ننظر في إليها مطمئنين بتدبرنا في هذه الآية ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾ ناقش المخالفين في ذلك، ستجد أنهم يحيلونك على قلوبهم، يحيلونك على عواطفهم يعني يحيلونك على ما تهواه أنفسهم؛ لكن ناقش أهل السنة المتحققين بمتابعة السلف، فستجد أنه وإن كان قلبه يغلي وإن كانت عواطفه جيّاشة فيضع عواطفه وقلبه جانبا وينظر نظر علم بالنصوص، لهذا النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان يستثار في مكة أفلا نميلن، لو أمرتنا لملنا على أهل منى بأسيافنا؟ أفلا نميل على أهل منى بأسيافنا؟ شكي إليه ما يلقونه، هذه شكوى الشباب؛ لأنهم ينظرون بعواطفهم، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما مال فصبّره الله جل وعلا بقوله جل وعلا ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾[الروم:60]، يعني أهل الشرك، وقال جل وعلا ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء﴾[يوسف:110] الآية، قال جل وعلا في هذه الآية ﴿وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾، عائشة رضي الله عنها وغيرها يقول إن القراءة ﴿وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُواْ﴾ لأن الرسل لا تظن بأن الله جل وعلا يكذبهم ما وعدهم؛ ولكن القراءة المتواترة ﴿وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾ وهذه حال يصل إليها المرء بشدة ما يعاني، شدة ما يعاني، يظن أنه قد كذب، لا شكا في وعد الله جل وعلا؛ ولكن ظنا أنه ليس بأهل أن يحقق فيه موعود الله جل وعلا، ﴿وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾ هذه الحال حال نفسية، حال نفسية، لهذا ثبت النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بسورة هود وثبت بسورة يوسف هو من معه، قال جل وعلا لا في آخر سورة هود ﴿وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ هو عليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أعلى الخلق مقاما وإيمانا واهتداء احتاج إلى تثبيت ﴿وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[هود:120]، كذلك مَن معه يحتاجون إلى ثبات وتثبيت، تثبيتهم وثباتهم بأي شيء؟ بمتابعة البينات والهدى، بتلاوة القرآن والتدبر فيه، وألا يخرجوا إلى أهواء أنفسهم.
لاشك أن أهل السنة والجماعة المتابعين للسلف الصالح -رضوان الله على الجميع- أنهم متحققون بذلك، إذا ناقشتهم ستناقش العالم من علماء المسلمين المتابعين للسلف الصالح ستجد أن جوابه جواب من عزل عاطفته وما يظهر فيه عن تحكيم تلك العاطفة وتلك الرغبات على النصوص.
وهذه مسألة من مسائل التوفيق العزيزة؛ وهي أن يوفق طالب العلم أو يوفق العبد إلى أن تكون متابعته للنص، لا أن يكون متابعا لهواه.
ولهذا جاء في الحديث الذي يصحّحه النووي وغيره من أهل العلم «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» يعني الإيمان الكامل، فإذا كمل الإيمان في قلب العبد، صار هواه وما بحبه ورغبته فيما جاء به الشرع تبعا لما جاء به الشرع.
أما الآخرون لأجل تربيتهم لأجل ما هم عليه، فتجد أن واقع هو يخالف ذلك، العاطفة بها يفهم النص، الظلم الواقع على العبد بها تفهم النصوص، ينزلون النصوص على الواقع الذي ضادّ أو يضاد أنفسهم وهواهم، وهذا لاشك أنه خروج بالنفس على الاتباع إلى تحكيم الهوى، بل هذا يعاقب العبد بأنواع من العقوبات، فإن أمر المتابعة وانتماء العبد لنظره إلى رغبيته وهواه هذا أمر عزيز جدا؛ لأنه هو خلاصة توحيد العبد لربه جل وعلا أن يخلص مما يشتهيه إلى ما يأمره ربه جل وعلا بهذه المسألة يعظم التباع خاصة في هذا الوقت كما ترون.
فمن الناس من وفق إلى اتباع سبيل أهل السنة والجماعة أعني السلف الصالح؛ ولكنه لم يوفقوا إلى الطمأنينة لذلك، فتجد في نفسه تردد، في نفسه نزوع، تارة إلى هذا وتارة إلى هذا، ذلك لأنه لو خبر نفسه وتأمّل وكان طبيبا بنفسه وفي قلبه لوجد أنه تنزع عنده نوازع يحكّم فيها نفسه على الشرع، إذا سألته على البينة لم يجد بينة إلا أن يجتهد في أن يجعل الدليل نبعا لما يهواه، وأهل السنة والجماعة المتابعين للسلف الصالح هؤلاء يجعلون أنفسهم تبعا للأئمة.
الذين يكون هذه المقالة -التي هي مقالة باطلة-، يقولون: نأخذ بسلفية المعتقد وبعصرية المواجهة، فهذه المقالة تغمض على كثيرين، وهي أن المواجهة من الدين فليس ثم مواجهة عصرية ومواجهة سلفية، المواجهة كلها يجب أن تكون على منهج السلف، ولهذا تجد أن من خالف منهج السلف في نوع المواجهة يحصل له نوع عقوبة، قال جل وعلا في سورة المائدة في وصف النصارى ﴿فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء﴾[المائدة:14]، الجماعات المنفصلة عن جماعة الإخوان المسلمين مثلا بتفرعاتها وأشكالها، ألا تجد أن بينهم شيئا من العداوة والبغضاء؟ نعم، إن بينهم ذلك، بعضهم يقدح في بعض حتى إن بعض الجماعات المنفصلة عن جماعات الإخوان يكفّر أصحابُها رؤوس الإخوان لأجل دخولهم في البرلمانات ونحو ذلك، وهذا نوع من الإلقاء والإغراء للعداوة والبغضاء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى: الفرقة سببها نسيان العباد حظ مما ذكروا به. فإذا نسي العباد شيئا حظا مما ذكروا به بعد أن بينوا به وكان الحجة قائمة عليهم يعاقبون بأنواع من العقوبات وأشدها وقوع الفرقة فيما بينهم، ووقوع الفرقة فيما بينهم، الفرقة التي معها العداوة والبغضاء، ولا شك أن هذا حقا في هذه الأمة وفي تاريخها وحصل في هذا الزمان.
التفرق الذي حصل الآن في الأمة المسلمة، طائفة من الذين يدعون إلى عودة الحياة الإسلامية يقولون لابد من اتحاد الأمة الإسلامية، اتحاد الدول الإسلامية، ونحو ذلك، أليس كذلك؟ يطلبون الاتحاد الوحدة وهذه الدول وما فرقها إلا الاستعمار، ما فرق هذه الدول إلا الاستعمار وإلا الأمة واحدة ونحو ذلك، نسألهم لم تفرقوا شيعا وأحزابا؟ أليست الفرقة مذمومة؟ فهذه الفرقة التي تمارسونها في الجماعات والأحزاب أليست فرقة؟ بل هي فرقة تصرف عن الهدى أكثر من صرف تشتت هذه الدول عن الهدى، وهذا ظاهر، سببه اتباع الهوى سببه تزيين سوء العمل، سببه أن المواجهة التي كل الجماعات واقعة فيها -يعني الجميع في مواجهة- أن المواجهة جُعلت عصرية، إذا كان المواجهة عصرية فإذن طريقتي في المواجهة اجتهادية وطريقة الآخر اجتهادية والثالث اجتهادية.
فإذن من كل جماعة لا تعجب أن تنشأ جيوب واتجاهات، لم؟ لأننا جعلنا المواجهة اجتهادية وعصرية، فإذا كان ثم ثلاثة أربعة عشرة يرون رأيا في سبيل من سبل المواجهة، وليس على هذا الرأي أهل الفرقة الأصلية أو الجماعة الأصلية فلم لا يجتهدون هم ويجعلون أنفسهم جماعة يرون أن المواجهة تكون على هذا المنوال.
لماذا خصصت هذه المسألة بالذكر؟ لأن في الوقع من معايشة الشباب في هذه البلاد وفي غيرها وُجدت أن هذه المسألة هي أكثر المسائل([1])
لا يلزمنا أن تكون مواجهتنا عصرية هذه المسألة التي البلاء فيها اليوم واقع، الناس يعني من على منهج أهل السنة فيها فريقان:
منهم ومن عنده طمأنينة والحمد لله لما دل عليه الكتاب والسنة والبينات فيما في معتقد أهل السنة في طريق إنكار المنكر والكلام على منابذة أهل السنة والجماعة المتابعين للسلف الصالح لطرق الخوارج المعتزلة في الموقف من الولاة ونحو ذلك.
وطائفة أخرى اعتراها بعض الشكوك، اعتراها بعض عدم الطمأنينة والقناعة بما دلت عليه البينات، وما جاءت الأدلة وما ذكره أهل السنة والجماعة في عقائدهم، فصاروا إلى مسألة المواجهة والموقف من الحكام مثلا والحكومات الكافرة أو من الولاة الولاة الذين لم يسلب اسم الإسلام وفي الإيمان، ينظرون إلى أن الموقف منهم والمواجهة تكون اجتهادية، وقع في بعض القلوب بعض الاشتباه خاصة عندنا الشباب السعوديين، فذهبوا مذاهب شتى خاصة المذهب الذي يقول أو الاتجاه الذي يقول: إن المواجهة عصرية.
هذه الطائفة الواقع أنه قصّروا في العلم؛ لأن الواجب أن المرء إذا كان عنده شبهة أن يسعى في إزالتها وكشفها، لا أن يجتهد برأيه ويخرج عما دلت عليه الأدلة إلى رأي رآه، إذا ما زالت الشبهة في يوم أو في أسبوع أو في شهر، ليس معنى ذلك أن تترك ما تعلمه أنه الحق لأجل جديد؛ لأجل كثرة المتكلمين به؟ لا؛ بل الواجب أن تبقى على ما كنت عليه إذا قع في القلب شيء من الشبهة تسعى في إزالته، تسأل أهل العلم إذا سأل واحد ولم يكن عنده جواب شافي، اسأل الثاني والثالث لابد أن يكون العلم النافع محفوظا في المتابعين للسلف، إذا جهله بعضهم فلن يجهله الآخرون.
إذن فأقول إنّ هذه الآية وهي قوله تعالى ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾ تفرض علينا أن نكون على بينة من ربنا في أمورنا جميعا، وخاصة هذا الأمر العظيم الذي هو أمر المواجهة.
في مصر تعلمون الحوادث التي حصلت وإن كانت حوادث فردية في غالب الأحيان، اجتهادية لكنها قد يكون معجبون بها.
أقول من رحمة الله جل وعلا للسلفيين أن هيأ لهم من عنده البصيرة ومعرفة للنصوص ومتابعتها حتى لا تفجعهم هذه الأمور؛ لأن هذه الأمور التي تحدث السياسية أو القلاقل من بعض الإسلاميين أو في المواجهات أو بعض الجماعات ونحو ذلك، هذه قد يعلم قوة [...] الأشخاص، فإذا كان عندك من يقوده قيادة صحيحة فهذا من أنواع منة الله جل وعلا علينا، لهذا لو كان المرء لوكل في نفسه لتخطفته الأقوال والآراء الكثيرة التي نراها اليوم.
لهذا أوصي في آخر هذه الكلمة التي طالت، أوصي أن نكون على بينة من ربنا في جميع أمورنا، البينة قائمة والحجج واضحة؛ لكن المطلوب من العبد أنه يسعى في أن تكون نفسه مطمئنة بتلك البينات؛ لأن النفس إذا كانت مطمئنة لم يصرفه أحد لا يمنة ولا يسرة.
واليوم كثرت الأقوال وكثرت الآراء وكثرت الكتب وكثرت المجلات وكثرت النشرات وكثرت المحاضرات، وإذا سمعت لكل أحد فمعنى ذلك أنك عرضت دينك للتنقل، كما قال الإمام مالك رحمه الله من أكثر الخصومات أكثر التنقل، من أكثر الخصومات يعني أكثر السؤال والخصومة في المسائل أكثر التنقل.
وقال أيضا: إذا رأيت أهل الجدل فإياك وإياهم. قال رجل له يعني للإمام مالك: أرأيت الرجل منا يكون معه السنة أيجادل عليها؟ قال: لا، يخبر بالسنة، فإن قبلت منه وإلا سكت، لم؟ لأن من ليس معه السنة، لن يجادلك بالسنة، سيجادلك بالرأي بالهوى وبالعقل، والمجادلة بالرأي والعقل والهوى تصرف كثيرين؛ لأنه ليس عند أكثر الخلق قوة العقل والإدراك ما تكون الحجة العقلية مدفوعة بحجة عقلية أخرى، فلهذا يكون الأمر على الإخبار بالسنة.
في هذا الوقت كثرة المجادلين وكثر الآراء يجب علينا بعد أن من الله علينا تكرما منه وتفضلا، أن نكون على اطمئنان بما عليه سلفنا، على اطمئنان من عقائدنا، على اطمئنان بما جاء وذكره أئمتنا ومشايخنا وعلماؤنا، وأن ننصرف عنه، لا برأي ولا باجتهاد ولا بعقل؛ لأن هذا لا الطريق تابعنا فيه والمتابعة عبادة، وأصحاب الطرق الأخرى اجتهدوا والاجتهاد في هذه المسائل مردود مذموم إلا إذا كان اجتهادا فيما ليس فيه نص.
Bookmark and Share

إضافة التعليق