تفاصيل الموضوع

العبودية لابن تيمية

تاريخ الموضوع : 15/4/2014 الموافق الثلاثاء 15 جماد الثاني 1435 هـ | عدد الزيارات : 1884
 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه أجمعين وبعد.

من الكتب الرائعة والتأصيلية لمفهوم العبادة،وبيان منزلتها، وأحوال الناس فيها كتاب الإمام ابن تيمية رحمه الله قاعدة في العبادة المسمى بالعبودية،وهو كتاب جليل القدر كما يقول تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي ،وقد حوت هذه الرسالة الجامعة كثيرا من المسائل المهمة في تقرير العبادة،وتعلق العباد بربهم وشدة افتقارهم وافتقار قلوبهم إليه سبحانه وتعالى،وشمول العبادة لكل الدين, بل هي الغاية من خلق الخلق ،وبها أرسل جميع الرسل ، وقد وصف الله عز وجل أفاضل خلقه من ملائكته ورسله في مواطن كثيرة من كتابه الكريم, بل تجد هذا الوصف بالعبودية في أعظم مقاماتهم كما وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية في مقاماته وأحواله العلية كالإسراء والمعراج كما قال سبحانه  : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } وقال في الإيحاء : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } وقال في الدعوة : { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } وقال في التحدي : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } كما جعل الله جل شأنه العبادة  لازمة لرسوله إلى الموت كما قال : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين }،وما ذاك إلا لأن العبد دائما مفتقر إلى ربه سبحانه تعالى فلا حول ولا قوة له إلا بالله ،ولا ملجأ من الله إلا إليه فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم أتمهم عبودية لله،وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه،وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره؛فالمستسلم له ولغيره مشرك ،والممتنع عن الاستسلام له مستكبر .

ولما كانت العبادة بهذه المنزلة والمكانة العالية قد بينها الله بيانا شافيا وأوضحها غاية الإيضاح فبين متى تكون مقبولة،ومتى ترد ،وعلى أي كيفية تكون،وعلى أي طريق تبنى وتوقف ،ومرجع ذلك إلى أصلين عظيمين هما تحقيق شهادة إن لا إله إلا الله ،وأن محمدا رسول الله فالأصل الأول " ألا يعبد إلا الله ،والأصل الثاني : أن يعبد بما أمر وشرع لا بغير ذلك من البدع فالعبادة  هي ما أحبه الله ورسوله وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة فإن الله لا يحبها ولا رسوله فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح فلا تكون عبادة.

ولهذه العبادة محركات وبواعث فكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه،وطمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له ؛ وإعراض قلبه عن الطلب من غير الله،والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم ؛ وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك ؛وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب ؛ و من استعبد قلبه فصار عبدا لغير الله فهذا يضره ذلك،ولو كان في الظاهر ملك الناس . فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب كما أن الغنى غنى النفس ، والقلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أطيب،ومن كان محبا لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر ويطيعه فيما أمر ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله ؛ فيحبه الله ؛ وجعل الله لأهل محبته علامتين : اتباع الرسول ؛ والجهاد في سبيله . وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح ؛ ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان،وحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب وهو موافقته في حب ما يحب وبغض ما يبغض والله يحب الإيمان والتقوى ويبغض الكفر والفسوق والعصيان،وقد أنزل الله للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقال : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } .

فلا يكون محبا لله إلا من يتبع رسوله, وطاعة الرسول ومتابعته تحقق العبودية . وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته ويدعي من الخيالات والمخالفات، و " الجهاد " يتضمن كمال محبة ما أمر الله به وكمال بغض ما نهى الله عنه ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله } . ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم . وأكمل هذه الأمة في ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل, فأين هذا من قوم يدعون المحبة .

وإذا ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية ،وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وحرية عما سواه فالقلب فقير بالذات إلى الله من " وجهين " : من جهة العبادة وهي العلة الغائية . ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلية فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه . ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه،وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة . وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله فهو دائما مفتقر إلى حقيقة { إياك نعبد وإياك نستعين }

ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به ولا يتوكل إلا عليه ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه ولا يوالي إلا من والاه الله ولا يعادي إلا من عاداه الله ولا يحب إلا لله ولا يبغض شيئا إلا لله ولا يعطي إلا لله ولا يمنع إلا لله . فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات وبكمال عبوديته لله يبرئه من الكبر والشرك.

وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل . فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع . فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين : أن يكون لله وأن يكون موافقا لمحبة الله ورسوله وهو الواجب والمستحب . كما قال : { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } فلا بد من العمل الصالح وهو الواجب والمستحب ولا بد أن يكون خالصا لوجه الله تعالى كما قال تعالى : { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه } . وهذا الأصل هو أصل الدين وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وإليه دعا الرسول وعليه جاهد ؛ وبه أمر وفيه رغب ؛ وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه ،والقلب إذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء كما قال تعالى : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه عن عبوديته لغيره ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره إذ ليس عند القلب لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من لله ومحبته له وإخلاصه الدين له وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه راغبا راهبا . وإذا كان العبد مخلصا له اجتباه ربه فيحيي قلبه واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء ويخاف من حصول ضد ذلك ؛ بخلاف القلب الذي لم يخلص لله فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه.

وأخيرا فإن الرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه والطاعة لهم . فأضل الشيطان النصارى وأشباههم فأشركوا بالله وعصوا الرسول فجعلوا يرغبون إليهم ويتوكلون عليهم ويسألونهم مع معصيتهم لأمرهم ومخالفاتهم لسنتهم وهدى الله المؤمنين المخلصين لله أهل الصراط المستقيم الذين عرفوا الحق واتبعوه فلم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين فأخلصوا دينهم لله وأسلموا وجوههم لله وأنابوا إلى ربهم وأحبوه ورجوه وخافوه وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم . وذلك هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينا إلا إياه وهو حقيقة العبادة لرب العالمين . فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليه ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين . والحمد لله وحده . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

كتبه :

بدر بن مقبل الظفيري

أستاذ مساعد بقسم العقيدة الجامعة الإسلامية.

Bookmark and Share

إضافة التعليق