الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة و الأديان و الفرق و المذاهب |
|
فيه خلاف
فيه خلاف أو (المسألة خلافية) جملة تتردد كثيرا على ألسنة دعاة التيسير، فإذا ما أرادوا التهوين من شيء، أو الانتصار لقول مرجوح، أو تبرير مخالفة ما، أو الدفاع عن مخالف ما، سلكوا أحد طريقين أو كليهما: الأول: دعوى التيسير على الناس، وعدم المشقة عليهم، وأنهم في زمن يصعب فيه حمل الناس على عزائم الشريعة، فإذا ما ناقشتهم، وأظهرت خطأهم ركبوا مطيتهم الأخرى، فاتكأوا عليها وتشبثوا بها، وهو ما أود الإشارة إليه في هذه الأسطر. الطريق الثاني: أن المسألة خلافية، فلا داعي للتشديد فيها، أو النكير على المخالف فيها، فأي الأمرين أتى الإنسان فهو في دائرة أقوال أهل العلم، له في عمله سلف، فإن كان الأمر محرما، فهناك من قال بجوازه، وإن كان واجباً، فيوجد من قال بعدم وجوبه، وإن كان مكفراً أو مبدعاً أو مفسقاً فليس كل العلماء قد قالوا بذلك، على الأقل هناك من يحتمل كلامه عدم القول بالتكفير ...!! وحول هذا المسلك أضع بين يديك أخي الكريم هذه التنبيهات: 1-أنه: ليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر. قال ابن القيم -رحمه لله تعالى- في إعلام الموقعين (3/300-301): "والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثير..." ثم مثَّل على ذلك بما يزيد على العشرين مسألة، كربا الفضل، ونكاح المتعة، وغير ذلك. 2-أن أغلب فروع الشريعة فيها خلاف، فلو اقتحم الإنسان هذا الباب، فسوغ فعل المحرم، وترك الواجب، بحجة وجود الخلاف لما بقي له من دينه إلا أقل القليل، (ومن تتبع الرخص فقد تزندق). 3-أنه ما من عالم إلا وقد يكون له زلة، فليس أحد منهم معصوماً، فالواجب حفظ حقه ومكانته وعلمه، مع الاستدراك عليه، وعدم متابعته على زلته، وقد تعقب أئمة السلف ابنَ خزيمة -رحمه الله تعالى- في تأويله حديث الصورة، مع نعتهم له بإمام الأئمة. 4-أنه وإن كانت المسألة المعينة فيها خلاف فإن مراعاة واقع الناس، أو المجتمع الذي تطرح فيه هذه المسألة أمر مطلوب، فقد يكون المجتمع مُطْبِقٌ على العمل بأحد القولين-وكلا القولين أدلتهما متكافئة، أما إذا كان أحد القولين ظاهر البطلان فإنه لا بد من بيانه والتنبيه عليه- وقد يكون هو الراجح، وإظهار القول الثاني المرجوح وإبرازه يثير البلبلة والفتنة بين الناس. وإذا كان أهل العلم يُجيزون كتم العلم -عن بعض الناس أو في بعض الأحوال- للمصلحة استناداً إلى فعل الصحابة مع تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي كتموها مراعاة للمصلحة، وخوفاً من تعلق أصحاب الشهوات والشبهات بها، إذا كان هذا حالهم مع هذه الأحاديث الصحيحة فينبغي أن يكون هذا الحال مستصحباً في موارد الخلاف من باب أولى، لا سيما إذا كان ضعيفاً أو شاذاً. -ألم ينه النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا هريرة رضي الله عنهما عن تبشير الناس بأن شهادة لا إله إلا الله موجبة لدخول الجنة؟ فقال لمعاذ: (لا تبشرهم فيتكلوا) متفق عليه، وقال لأبي هريرة: (فخلِّهم يعملون) أخرجه مسلم، أي: فخلهم يعملون خشية أن يتكل الناس عليها ويدعوا العمل. -ألم يُنْكَر على أنس رضي الله عنه عندما حدَّث الحجاج بحديث العرنيين؟. -وقد ترجم البخاري أحد أبوابه في صحيحه بقوله: (باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا). وقال الشاطبي: "ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علمًا بالأحكام، بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص... وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها، فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية" [الموافقات (5/167-172)]. 5-أن هذه المسائل الخلافية مدونة في بطون الكتب، ويطلع عليها العلماء، وطلبة العلم، ومن رامها وجدها في مظانها، ومع ذلك لا تجد العلماء يبرزونها للناس ويدندنون حولها في المجامع العامة ووسائل الإعلام، ونحوها، وذلك مراعاة للمصلحة، غاية أمرهم ذكرها في مجالس الدرس والطلب، فلماذا يأتي بعض المنتسبين للعلم والدعوة ويستل هذه المسألة من تلك الكتب ثم يتبناها وينشرها، ويتحمس لها، وينافح عنها، وكأنه أتى بشيء جديد لم يطلع عليه الأولون والآخرون. -أم يكون الدافع لإثارة هذه المسائل الخلافية والأقوال الشاذة هو الإغراب، الناتج عن الرغبة في تحقيق الذات، ولفت الأنظار -نسأل الله السلامة والعافية- فإن كان هذا فليتق الله في الأمة، بل وفي نفسه أولاً، فلا يوردها موارد الهلكة، وليعالج قلبه فإن أمراض القلوب كثيرة متنوعة، والقلوب قُلَّب، والله المستعان. -أم يكون الدافع محاولة الظهور بمظهر الوسطي المسالم، الذي يصحح كل شيء، ويمد الجسور مع كل أحد؟! فإن كان هذا دافعه فالوسطية بالتزام الشريعة، وقد جاءت بأن ثمة حق وباطل. فالحق مقبول متبوع، والباطل مرفوض مردود، ومعيار القبول والرفض ومداره: الشرع، وليس الأمزجة والأهواء. 6-إن من توفيق الله للعبد، وإرادة الخير به، ونعمته عليه أن يجد العبد نفسه حريصاً على أن يحتاط لدينه، بعيداً عن المواضع المشتبهة، في زمن قلَّ فيه الورع، ورقَّ فيه التدين، وإنك لتعجب من نَقَلَةِ الأقوال الشاذة حينما يُثربون على من يقول: الأحوط كذا، ونحوه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ...) فهذا الحديث الصحيح أصل في بُعد الإنسان عما يشتبه عليه، وخروجه عن الخلاف في المسائل التي يمكن فيها ذلك. وأخيراً أليس من المخجل أن يجد أصحاب الأقوال الشاذة أنفسهم محل اهتمام وإشادة وحفاوة من أهل الأهواء، ألا يكفي ذلك دليلاً على خطأ مسارهم، وبعدهم عن الطريق الحق، أسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. د. سليمان بن محمد الدبيخي |